18-تموز-2016
تركيا: نهاية حقبة الجيش وبدء مرحلة الاستخبارات والأئمة
لم يشفع لرجل الدين التركي فتح الله غولن إعلانه موقفه في الساعة الأولى للمحاولة الانقلابية الفاشلة التي كادت تطيح بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان لولا التدخل الحاسم من الاستخبارات والشرطة ومساندة رجال الدين. وسرعان ما وجه أصابع الاتهام إلى «الكيان الموازي» الذي يتهم غولن بأنه يديره للإطاحة بحزب العدالة والتنمية.
وتشير التصريحات الأولية التي صدرت عن أركان الحزب والحكومة بأن فشل الإنقلاب يدشن مرحلة جديدة لا تقل تأثيراتها عن الانقلاب نفسه، على الصعيد الداخلي، إذ تم عزل أكثر من 2700 قاض صباح أمس، وهم القضاة الذين احتجوا مسبقاً على خطة أردوغان «إعادة هيكلة القضاء» عبر نفي القضاة الذين لا يؤيدون النظام الرئاسي إلى أماكن نائية، وغير مفصلية.
وصدرت قرارات بنقل أكثر من 3700 قاض وممثل ادعاء قبل شهر من الانقلاب الفاشل.
أبدى الخصوم السياسيون لأردوغان مسؤولية كبيرة في الساعات التي كاد ينجح فيها الانقلاب، فكل من قادة حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) أعلنا تأييدهما للحياة الديمقراطية ومعارضة الانقلاب، رغم أن الحزبين، وتحديدا الحزب الكردي، أكثر الأطراف المتضررة من سلطة حزب العدالة والتنمية، وكان آخرها قانون نزع الحصانة عن النواب، ومنح الحصانة للجيش خلال العمليات العسكرية التي ينفذها في المناطق الكردية.
إضعاف الأحزاب
وتأمل أوساط المعارضة أن تؤدي هذه الوحدة السياسية ضد المحاولة الانقلابية أردوغان إلى إعادة التفكير بسياساته، ومراجعة قراءة توازن القوى المختل، فإضعاف الحياة المدنية والسياسية وإعاقة المعارضة من العمل السياسي، والاستقواء بقوانين ضد الخصوم السياسيين لا يؤدي سوى إلى ضرب التوازن الأكثر حسماً: الساسة والعسكر.
أضعف الرئيس التركي المعسكر الأول باختصار السياسة في توجهاته، ومنح الجيش صلاحيات واسعة في «حرب المدن» في المناطق الكردية، وبهذه الحرب انتصر أردوغان في الانتخابات البرلمانية المبكرة في نوفمبر 2015. وطبيعي أن هذا الخلل في المعادلة استفاد منها أردوغان مرحلياً على المدى القصير، لكن عقلية المؤسسة العسكرية لن تقبل أن تصبح أداة تنفيذية مجانية لأردوغان. وما جرى نتيجة طبيعية لإضعاف الرئيس التركي الحياة السياسية ومحاولات الهيمنة على القضاء، والأكثر غرابة إعادته الجيش إلى مسرح الأحداث عبر منحه حرباً في الداخل.
ويبدو أن درس المحاولة الانقلابية لن يفيد في تفعيل معادلة «وحدة الأحزاب خارج البرلمان في وجه تدخلات المؤسسة العسكرية»، بل إن بوادر تجيير الفشل الانقلابي ضد الخصوم السياسيين بدأ تطبيقه فعلياً بالإصرار على النظام الرئاسي الذي تعارضه كل الأحزاب المعارضة.
إخضاع الجيش
من المستبعد، في ضوء المؤشرات الأولية، أن يؤدي فشل الانقلاب إلى توسيع مساحة ممارسة العمل السياسي، فطبيعة العوامل التي أدت إلى إفشال الانقلاب تشير إلى مرحلة جديدة في الحياة السياسية التركية، مرحلة إخضاع الجيش بقوة الاستخبارات، أو النهاية الرسمية لمرحلة المؤسسة العسكرية وبدء مرحلة الأجهزة الأمنية، مع ظهور قوة رديفة إشكالية في الأوجه المتناقضة التي قد تلعبها في السياسة، وهم طبقة أئمة المساجد والجوامع.
وبذلك يتم بشكل متسارع التخلص من القوة الموازية (الجيش) لحزب العدالة، وكلتا القوتين يدور شك كبير ومشروع حول مقولاتهما عن الحياة الديمقراطية ودولة القانون.
تبقى مفارقة في هوية المحاولة الانقلابية الفاشلة، فهي لا تكاد تشبه في شيء أي انقلاب في تركيا، وهي البلد الذي لم يشهد «محاولات» بل انقلابات مضمونة النجاح، لأنها تتصرف كمؤسسة وليس دكتاتوريات فردية. المحاولة الأخيرة الفاشلة تعني نهاية «الجيش كمؤسسة متطفلة على السياسة»، ويبقى لها تنفيذ أوامر السلطة السياسية.
انقلاب الحاميات
لا يشبه الانقلاب تركيا، بل أقرب إلى محاولات انقلابية شهدتها دول أقل تطوراً في المنطقة، وهي من نوع انقلاب حاميات عسكرية على السلطة السياسية وليس انقلاب مؤسسة عسكرية على مؤسسة سياسية.
تجربة «الضباط الأحرار» في سوريا والعراق ومصر كانت في تراتبية ضباطها ذوي الرتب المتوسطة تراتبية مقاربة للمحاولة الأخيرة في تركيا، والانقلاب الفاشل الأخير، في العديد من الجوانب الميدانية، يشبه ما يعرف بـ«انقلاب العقداء الأربعة» في العراق في مايو 1941، حين نجح الانقلاب أياماً، ثم فشل، ثم لجأ قادتها إلى الخصم التاريخي للعراق (إيران)، أعقبتها حملة شعواء قادها نوري السعيد ضد الجيش وهمش دوره وركز على تأهيل الشرطة والمخابرات، لينتهي الأمر بعد عام بإعدام العقداء الأربعة بعد تسليمهم من قبل بريطانيا إلى الحكومة العراقية.
1960
كان انقلاب عام 1960 هو الأول الذي شهدته تركيا على حكومة رئيس الوزراء عدنان مندريس، زعيم الحزب الديمقراطي ذو الميول المحافظة. وكان الانقلاب الأكثر دموية على مستوى القيادة، حيث تم إعدام رئيس الوزراء مندريس، واعتقل الرئيس التركي جلال بايار.