30-حزيران-2016






العلاق يحتفي بجماليات فاروق يوسف

 

كتب الشاعر العراقي البارز على جعفر العلاق، مقالة في غاية الجمال والشفافية عن زميله وصديقه الكاتب والشاعر فاروق يوسف، ضمنها انطباعاته وملاحظاته الفنية عن انتاجه جاء فيها:

 

يتنقل بين المنافي، بكامل عذاباته وحنينه الذي لا يهدأ. في هذا العراء الأصمّ الذي يزداد توحشاً كلحظة، في هذه الأرض الخالية إلاّ مما يضيق علينا مساحة النوم، ويهلك قدرتنا على الحلم أو التوهـم، يحاول دائماً أن يصنع البهجة والدفء في كل شيءٍ يراه أو يلمسه، بتلقائيـةٍ رفيعـة، لا تعرف التجهمّ أو رطانـة الطارئـين على الإبداع.

كان فاروق يوسف واحداً من شعراء سبعينيات القرن الماضي، الذين جاءوا إلى القصيدة العراقية بلغةٍ أنضجتها شموس الحرب، والخنادق الرطبة، وليالي التعتيم والحصارات. وبعد أن نجوا من الموت بالمصادفة، تلقفتهم المنافي، وذهب كلٌ إلى مصيره مضطراً أو مختاراً.

 

كثيرون هم الشعراء الذين اندفعوا خارج قصائدهم، يكتبون النثر، غير أن القلة منهم فقط، حملت إلى نثرها ترفاً شعرياّ كالذي يحمله فاروق يوسف، إلى نثره، وكأنه يواصل سلوكه الشعري في ميدان رديف.

 

يحاول أن يصنع، كل صباحٍ، وليمةً من الفرح، متاحةً لنا جميعاً نحن يتامى هذا الكون الذي لا قلب له. يتوافد على لغته أطفالٌ ما عادوا قادرين على اليتم، وطيورٌ شديدة النقاء، هاربةً من سماءٍ لا تمطر إلاّ الوجع الوفير، لتتزود من لغته الحانية بشيءٍ من الأمل، والرحمة، والكثير من الاحتمال..

 

أثار حفيظة قصيدته ذات يوم، حين أخذ يبتعد عن بيتها المعلق، كالأعشاش، عند تخوم الخيال، لينشئ جوارها حقولاّ حرة، مليئة بكائناتٍ نثريةٍ شفيفةٍ، وأشجارٍ مكللةٍ بالضوء والأسى النبيل. وينقل إلى لغته، التي تنفر من التصنيف والتسميات الضيقة، حمولاتٍ شعريةً ثمينةً ونادرة.

 

وهو الرسام الذي صنع لوحته الخاصة، التي لا يقوى على إنتاجها ربما أحدٌ سواه: في ألاّ يكون رساماً محترفاً يمعن في طاعة المهنة، والامتثال لاشتراطاتها الحقة أو المتوهمة، ثم يسعى كل يوم إلى تنمية إغراءاتها الثقيلة كالسلاسل. كان يسعى الى أن يستعيض عن ذلك كله بهذا الفيض من جنون اللغة، واحتدامها الشره اللذيذ. يتحدث بها عن الرسم ومخبآته المدهشة، فتعصف بنا حميّاها الجميلة، فإذا بنا أسرى هذه المسرات وعشاق تجلياتها..

 

كان احتفاؤه بالجمال وتمجيد من ينهكون قلوبهم في صنعه هاجسه الذي لا يفارقه، فهو لا يكتب إلاّ عن شغفٍ أصيلٍ بما يكتب عنه، لذلك فإن كتاباته ملتقىً للوعي والمحبة والمعرفة الناصعة والحلم الذاهب إلى الجنون..

 

هذا ما يسعى إلى إنجازه فاروق يوسف في وقتٍ نرى فيه نقادا، من صنع الصدفة أو اختلال المعايير، يندفعون إلى نصوص الآخرين، مكشرين عن أنيابٍ ومخالبَ لم تدرَّبْ إلاّ على إلحاق الأذى بالجمال، ذلك لأنهم لا يكتبون بدافع المعرفة المرهفة المُحبة، بل بفائض القبح الذي يملأ النفس، والسعي إلى تزييف ذاكرة الناس وخداعهم.

 

معه، لا يقـدّم الجماليّ شروطه أو مطالبه، فكل شيءٍ، في هذا الكون، مهما كان صغيراً أو عابراً أو معرضاً للتلاشي، يتحول الى فتنةٍ كاملة. هكذا ما إن تمسّه لغة فاروق يوسف المراوغة حتى يغدو موضوعاً جمالياً بامتياز. امرأةٌ تترك في ذاكرة الهواء عطراً لا ينسى، والمصعدُ حين يعطل بعاشقين لم يلتقيا منذ زمن، ووحل المخيمات، والطائر الأعزل، وكباب الفلوجة. كل شيءٍ، كل شيءٍ تماماً، يتحول بقدرة الحبر وتوثّب المخيلة إلى كائناتٍ تحتفي بالحياة، وتتشبّث بها، رغم ندرة هذه الحياة أو تواطئها المخجل مع الموت..

 

ووسط هذه المسرات التي تملأ روحه، وتنضح بها لغته الأنيقةُ المستفزة، لم ينس، للحظة، فداحةَ الكارثة: لم ينسَ بلداً ينحدر إلى ليلٍ أزليّ وصمتٍ مطبق، بعد أن علّمَ البشرية لذة الكلام ورحابة اللغة. ولم يهادن عالماً يقيم أعراسه على نيران المذابح، ويسد أذنيه عن أنين الذاهبين إلى التهلكة..

 

ظل فاروق يوسف يسهرعلى لغته ويدللها، حتى غدت لغةً خاصةً به: لا يدّعيها غيره، ولا يشاركه فيها أحد. وإذا كانت هذه اللغة ابنة النثر اللبناني الوارف، كما قال ذات مرة، فإن فاروق خريجُ مدرسة الألم العراقيّ، والشاهدُ على كوارثنا الممتدة، من مناحات كلكامش حتى مآتم العـراق المزدهرة، التي تتجدد كل يوم..




التعليقات

إضافة تعليق

الاسم  
التعليق