19-شباط-2013

جميل المدفعي.. ودوره السياسي والعسكري

           
 
 

طارق يونس السراج

بناءً على تكليف من السيد ( أـ د. عمر نجيب اليعقوبي ) ابن اخت الراحل (جميل المدفعي )رئيس وزراء العراق الاسبق، اتناول بمقال السيرة الذاتية لهذا الرجل،اعتمدت على رسالة الاستاذ السراج التي تقع بي (285) صفحة من الحجم الكبير هي الاولى التي تدرس سيرة القائد جميل المدفعي والذي نال فيها على درجة الماجستير اداب في التاريخ الحديث المعاصر .
 
وعندما اطلعت عليها عن كثب ، وجدت فيها جهدا فكريا بمعرفة هذه الشخصية التاريخية، والعسكرية من حيث توجهاتها الفكرية ، والقومية ، وغزارة المعلومات والاحداث ، والمواقف ، وهي تُعد انموذجا ، لمعظم الشخصيات التاريخية العراقية ، التي يتعذر على الكاتب تغطيتها بمقال واحد لان هذه الشخصية لايمكن ايجازها لاهميتها ولتشابك احداثها ، ولكونها مخضرمة عاصرت عدة مراحل تاريخية مهمة ، بدءا من المرحلة الاخيرة من الحكم العثماني مروراً بالاحتلال البريطاني ، ومرحلة الانتداب البريطاني ، وبداية العهد الجمهوري .
 
من هنا اخذت بعض التواريخ المهمة في حياته لاُسجل ما حصل فيها من احداث ، وانجازات ، وبطولات رائعة ، وشجاعة فائقة ووجدتها غنية بالبحث التاريخي ، وانارة الجوانب المهمة للراحل (المدفعي ) من تاريخ ولادته وحتى وفاته.
 
نشأته :ــ القائد والخبير العسكري جميل المدفعي تولد 1890- 1958 في لواء الموصل محلة (باب لجش)و رأي آخر يشير انه ولد في ضاحية نينوى وصار يكنى باسمها جميل نينوي. كان والد جميل (محمد اغا عباس)  ضابطاً في الجيش العثماني برتبة يوز باشي (نقيب) وهو من اصل عربي من محلة (باب الشيخ) في بغداد ويذكر رأى آخر ان والد جميل من شبه الجزيرة الفراتيه المكونة من (ماردين ، ونصيبين ، وديار بكر) وهذه المناطق تابعه للجمهورية التركيه حاليا،اما والدته اسمها (عبطه عمر) عربية الاصل من عشيرة (البومفرج )ويشير مصدر آخر الى ان والدته تنحدر من عائلة الحاج سري .
 
 وحين بلغ الثانية عشرة من عمره توفى والده سنة 1902 ، فتعهدت بتربيته والدته مع زوج اخته الحاج سري في الموصل محلة (البدن).
 
درس جميل محمد اغا عباس في المدرسة الابتدائية وتخرج فيها، و معظم دراسته باللغة التركية وكانت مدة الدراسة في المرحلة الابتدائية انذاك اربع سنوات، وبعد تخرجه انتقل مع والدته الى بغداد ليعيش في كنف خاليه، احمد وعلي حيث كانا يقيمان في محلة ( قنبر علي ) قرب سوق الفضل.
 
وفي بغداد دخل اليافع جميل المدرسة الرشدية العسكرية، وكانت دراسته على نفقة الدولة، وقد تلقى مبادئ التاريخ الاسلامي، وجغرافية الدولة العثمانية ، والهندية ، والحساب ، والصحة ، واللغات العربية والتركية ، والفرنسية،وكانت مدة دراسته في المدرسة الرشدية العسكرية اربع سنوات.
 
بعد اتمام دراسته في المدرسة الرشدية انتقل الشاب جميل الى الاعدادية العسكرية، في بغداد وكانت مدة الدراسة فيها ثلاث سنوات، درس فيها المثلثات ، والجبر ، والهندسة ، والصحة ، والفلك ، والجغرافية والتاريخ ، والدين ، واللغات العربية ، والتركية ، والفرنسية ، والانكليزية ، وكان معظم مدرسي اللغات والخط ، من الضباط العراقيين منهم علي مظلوم ورؤوف الجيبجي وعلي زكي ونوري توفيق وغيرهم.
 
بعد تخرج الشاب جميل المدفعي في الاعدادية العسكرية رُشح للذهاب الى اسطنبول ، لاجل الدراسة فيها ومن زملائه الذين رافقوه جلال بابان، وكان قد سبقهما ببضع سنوات كل من نوري السعيد ، وجعفر العسكري ، وياسين الهاشمي، وعلي جودة الايوبي.
 
 كان جميل متخصصا في دراسة الهندسة العسكرية ــ صنف المدفعيه ــ وتعتبر دراسته في اسطنبول منعطفاً تاريخياً في مسار شخصيته القومية، فيما بعد تحول الى شخصية عسكرية، وسياسية عراقية تقليدية.
 
 اصبح جميل المدفعي نجما عسكريا بارزا في الجيش العثماني وهو برتبة ملازم ارسل الى منطقة ـ روم ايلي- بتركية وتقلد فيها عدة مناصب، ثم كلف بالذهاب الى القفقاس وقد شارك في حرب البلقان بين عامي 1913ـ1914 ، وقد وقع في الاسر وحرب البلقان كانت اول حرب حقيقية يخوضها المدفعي في حياته واكسبته خبرة عسكرية، وادارية للتعامل مع قطعات الجيش العثماني، وبعد اطلاق سراحه من الاسر عين معلما للمدفعية في الاعدادية العسكرية في بغداد.
 
وعندما اندلعت نيران الحرب العالمية الاولى شاركت الدولة العثمانية فيها الى جانب المانيا، ضد بريطانيا ، وفرنسا ، وروسيا القيصرية، كان جميل المدفعي احد محاربي الجيش العثماني في مراحلها الاولى عام 1914 ـ 1916 وبالنظر للبطولة والشجاعة الفائقة التي اداها المدفعي في مواجهة الجيش البريطاني وفي احدى المعارك اكسبته لقب المدفعي التي لازمت شخصيته ليصبح لقبا مميزا له(وملخص المعركة بينما كان منغمرا في ملحمته مع العدو امرت القيادة العامة للجيش العثماني احدى الوحدات العسكرية بالانسحاب من موقعها نتيجة ضغط العدو البريطاني عليها فأوعزت الى الضابط جميل محمد عباس ان يواصل اطلاق النار من مدفعه بكثافه لتغطية الانسحاب على ان ينسحب هو ايضا مع قواته فور ابتعاد القوات الاخرى من منطقة الخطر.
 
 لكنه برغم نجاح عملية تغطية الانسحاب اصيب بجرح بليغ يتطلب الاسراع بنقله انقاذاً لحياته، لكنه ابى ان يترك مدفعه في ساحة الميدان واصر على تفكيكه ونقله معه وبالفعل استطاع انجاز ذلك ولحق بوحدته العسكرية فكانت نجاته وقواته اعجوبة ادهشت القيادة العامة العثمانية، وجعلت قائدها العام يخاطب الجنود والضباط قائلا :ـ (هكذا فليكن المدفعي) ومنذ تلك الساعة صار زملاؤه ورؤساؤه يلقبونه بـ(المدفعي).
 
بعد تخرجه من الاكاديميه العسكريه في اسطنبول انتمى الى جمعية العهد السرية كرد على فعل سياسة التتريك العثمانية في التعليم والمحاكم والادارة ، وفي التمثيل غير المتساوي في مجلس (المبعوثان العثماني) الذي تشكل عام 1908 وانظم الى هذه الجمعية بعده الكثير من العراقيين والسوريين الذين كانوا يدرسون في الاكاديمية العسكرية في اسطنبول ولهذه الجمعية فروع عديدة في كل من حلب ، ودمشق والموصل ، وبغداد ،والبصرة وكان هدف المدفعي من انتمائه الى هذه الجمعية كوسيلة للوصول الى استقلال العراق من كل انواع الاستعمار والهيمنة الاجنبية .
 
في عام 1916 اندلعت الثورة العربية وكان جميل المدفعي اسيرا لدى الجيش البريطاني في الهند ومن هناك تطوع في جيش الثورة العربية وعين امرا لمدفعية جيش الامير فيصل الاول .
 
شارك المدفعي في قيادة انتفاضة بلدة تلعفر حيث عسكر بقواته قرب المدينة ، وقطع مواصلات الجيش البريطاني وكبد العدو خسائر فادحة في منطقة (الكياره ) ودعا وجهاء بلدة تلعفرللانضمام الى قواته الزاحفة نحو البلدة ، او ان يعدوا الذخائر والمؤن ويلقوا القبض على جميع الموظفين البريطانيين ليكونوا رهينة بيده ، فلا يفرج عنهم حتى يفرج البريطانيون عن ياسين الهاشمي المعتقل في فلسطين .
عبر اهالي تلعفر عن فرحهم بدخول قوات جميل المدفعي فخرجوا لاستقباله مظهرين سعادتهم وفرحهم بهذا النصر ،و امر القائد المدفعي بانزال العلم البريطاني في البلدة ورفع العلم العربي بدله.
 
ان عدم التكافؤ بين الجيشين من حيث الامكانيات ادى الى الفشل العسكري لانتفاضتي تلعفر ودير الزور ، لكنهما انتصرتا سياسياً اذ كانت الشرارة الاولى التي اشعلت فتيل ثورة العشرين الخالدة لتغيير الحكم البريطاني في العراق. كان القائد المدفعي يدين بالولاء للدوله العثمانية التي حارب في جيشها ، لكنه انقلب عليها حينما شعر بأن مصلحة العرب لاتتفق وسياسة تلك الدولة ، وبالذات بعد ان تسلم الاتحاديون السلطة اي انه دخل السياسة من ابواب الحركه القوميــــة ، ومعاداة السيطرة العثمانية على البلاد العربية فأنضم الى الثورة العربية.
 
عندما فرض الانتداب البريطاني على العراق على اساس انه لايزال كياناً ضعيفاً ، ومتخلفاً ، ولايستطيع ان يدير نفسه بنفسه ، ويحتاج الى دولة كبرى متقدمة تقوده الى التطور ، والتحديث ، ويستند اليها لتدافع عن حدوده ضد تحرشات جيرانه الاقوياء كان المدفعي منسوباً الى المدرسة (المثالية) لجمعية العهد التي طلبت منه محاربة الجيش البريطاني في تلعفر عن طريق دير الزور في سوريا كمحاولة يائسة لافهام الرأي العام المحلي ، والعربي ، والدولي ، بأن العراقيين يرفضون الانتداب البريطاني ، ويطالبون بالاستقلال ، وعندما فشل اسلوب العنف العسكري بالوصول الى هدف الاستقلال انتقل جميل المدفعي الى دير الزور ، اي ان انتفاضة تلعفر فشلت في تحرير العراق ، لكنها نجحت في تحريك قضية مطالبة العراقيين بالاستقلال في المحافل الدولية ،اذ كانت تلك الانتفاضة هي الشرارة الاولى التي عجلت باندلاع ثورة العشرين الكبرى في العراق.




التعليقات

الاسم الدكتور مليح صالح شكر
التاريخ 20/02/2013 08:18:08 ص
التعليق قرأت بإهتمام هذه المقالة القيمة عن المرحوم جميل المدفعي، وأود أن أضيف أموراً أخرى في حياة المدفعي. من المعروف جيداً أن الوالد المرحوم إبراهيم صالح شكر كان يرتبط بعلاقات صداقة مع عدد من قادة العراق بينهم جميل المدفعي. فبعد وفاة الوالد في 15 أيار 1944 بقليل ، أرسل جميل المدفعي ، رئيس الوزراء آنذاك ، وكان أحد الحاضرين مراسم التشييع إلى مقبرة الغزالي ببغداد ، شيكاً بألف دينار مع شخص الى أخي الكبير رياض ، وقال له أنها ثمن لمكتبة إبراهيم صالح شكر، لكن رياضاً رفض المبلغ ، بالرغم من الحاجة الماسة لمثل هذا المبلغ في تلك الظروف ، وأبلغ الوسيط بأن المكتبة ستبقى له . لكن المكتبة لم تبق له ، ولا لمن بعده بعد ان توفي هو الآخر في عام 1946 ودفن في لبنان، وكنا بقية الأبناء أطفالاً وشارك في التشيع كلا من جميل المدفعي، ومحمود صبحي الدفتري ، والوزراء ، وممثل عن نوري السعيد ، ورئيس مجلس النواب الشيخ محمد رضا الشبيبي ، ورئيس مجلس الأعيان محمد الصدر ، وجمع غفير من الوزراء ورجال السياسة والدولة والصحافة والأدب. وأوضح عبد اللطيف حبيب، لي وأنا ألتقيه في مكاتب جريدة ( البلد) عام 1966-1967 حيث كان يعمل مع صاحبها عبد القادر البراك، بأن جميل المدفعي ، قد أكثر من زياراته للوالد في مستشفى العلمين ببغداد ، لوحده احيانا ومع محمود صبحي الدفتري أحياناً اخرى. قاد جميل المدفعي الهجوم على حامية تلعفر خلال الثورة العربية الكبرى ، وأصبح رئيساً للوزراء لأول مرة قبل ان يتولى ياسين الهاشمي المنصب في 17 آذار 1935 ، وتولى المدفعي رئاسة الوزراء سبع مرات في العهد الملكي بين عام 1933-1953، وترأس مجلس النواب ، وشغل مناصب وزير الداخلية ووزير الدفاع في عدد من الوزارات الأخرى. وشارك شخصياً في تشييع جثمان إبراهيم صالح شكر بعد وفاته في 15 أيار1944 ، وحاول مساعدة عائلة إبراهيم بصورة غير مباشرة عندما عرض على رياض ، الابن الأكبر لإبراهيم شراء الوالد بألف دينار، لكن رياضاً رفض ، وبعدها توفي هو الآخر وكان إبراهيم صالح شكر قد كتب سلسلة مقالات عن عدد من الشخصيات السياسية والادبية في العراق ونشرها في جريدته ( الزمان) ، وإحداها في العدد الخامس يوم الجمعة 29 تموز 1927 بعنوان ( من هو؟) ، قال فيه: ( ملء روحه الشهامة ، وملء نفسه الإباء، وملء حديثه الصدق ، وملء قلبه محبة شعبه وخدمة أمته. يزين جهاده الإخلاص المملوء رجولة، ويزين رجولته الوقار الرزين المملوء إخلاصاً، هو صفحة وضاءة في تاريخ وثبة العرب إلى الحرية والاستقلال، وهو سيف بتار في ميدان الجهاد الوطني الصادق. له الوثبات اللامعة المعروفة، والوقفات الباسلة المشهورة، والعزمات الماضية الصادقة، والنضال الصارم المشكور. ما غمزت بهارج( المنصب) قناته الصلبة القويمة، وما صدته زخارف( الكرسي) عن الواجب الذي تتطلبه مصلحة البلاد في الأبرار من أبنائها. ولما وجد التضحية بالنفس في سبيل ذلك الواجب ضرورية لحياة البلاد التي تغذى حبها وشرب الإخلاص لها جازف بنفسه في سبيلها، وخاطر بروحه في إنقاذها، لولا ان العزة أبت إلا أن تحفظ تلك النفس الوثابة، وتحرس تلك الروح الطاهرة الزكية، رحمة بهذه الأمة المصابة( بقلة المخلصين) لها في هذه الديار. ما أتعبته ( المشقات) الكثيرة في النضال عن حرم أمته، وما أرهبه شبح الموت الماثل في الذب عن حياض وطنه، فحيث حل حلت معه الوطنية الصادقة، وحيث توجه سار معه الإخلاص النزيه. * * * لقد عرفته شاباً ملء أهابه القوة والنشاط، وقد عرفته جندياً تلمع البسالة في قوته ونشاطه، وقد عرفت عنه في ميدان الثورة العربية ، فعرفته بطلاً ينهزم الموت متهيباً نزاله، خائفاً طعانه. يفض العمل الصامت المثمر، ويتجنب الضجة في ذلك العمل، أما أنه لم يستطع أن يقوم بكل ما يتطلبه من ( الأعمال) التي تطمئن إليها نفسه ، وترتضيها واجباته لبلاده، فذلك لأن البلاد في وضع لا يمكنه من القيام بما عليه من قسط وافر لهذه البلاد. وهو متفائل في المستقبل، ويرى فيه لأمته ابتسامة تبهج النفوس الكريمة الحساسة بضرورة الحياة، إذا كان رائد تلك النفوس الإخلاص في العمل لهذه البلاد الناهضة إلى فك القيود ، وكسر الأغلال، ومتى كان رائد النفوس الشاعر بضرورة الحياة غير ذلك ؟ تعجبك فيه الوداعة، وتكبر منه الغضبة، أما أخلاقه فأخلاق العرب الخلص، وأما شعوره ففياض بالحياة التي يرتضيها واجب الأمم الواثبة المستقلة. أصدقاؤه كثيرون ، كلهم يحترمون فيه الإخاء الصادق، وأعداء بلاده كثيرون أيضاً، وهم أعداؤه ( طبعاً) ، ولكنهم يكبرون فيه العداء المملوء جرأة وشهامة. الطيبة شائعة في قلبه، والشجاعة سجية فيه، والإخلاص فطرته، أما الوفاء والحزم والثبات فذلك ديدنه، وأما النخوة والمروءة والاستقامة فذلك وهذه ما عرف بهما وبهما أشتهر. يغبط فيه المخلصون الأحدوثة الطيبة ، أما المهتمون ب( المبدأ) فيحسدون فيه الماضي المجيد. والذين يأملون في المستقبل خيراً لهذه الأمة يعقدون عليه آمال الأمة الباسمة، وهو موضع ثقة، ومحط الآمال الطيبة الزاهرة. والآن أعلمت من هو ؟ هو جميل بك المدفعي، وكفى). (إنتهى النص) ومن المتفق عليه عند عدد من أصدقاء إبراهيم صالح شكر أن نوري السعيد هو الذي شطب اسمه من قائمة المطلوب إعتقالهم بعد فشل ثورة 1941، مراعاة لظروفه الصحية السيئة ، ولكن إبراهيم يلمح في رسالة منه إلى المدفعي ، إلى ان المدفعي هو من شطب اسمه، وهو الذي (أخرجه من النافذة). لكن المدفعي لم يستمر طويلاً في رئاسة الوزراء فأستلمها نوري السعيد منه ، ووضع صالح جبر وزيراً للداخلية ، فإنتقمت الحكومة من كل الذين شاركوا أو ساندوا الثورة من ضباط ووزراء وسياسيين وصحفيين وأدباء، فأعدمت وشردت ونفيت وإعتقلت وطردت جميع الذين لعبوا دوراً في الثورة ، وكان نصيب إبراهيم الفصل من الوظيفة. ونص الرسالة هذه كما يلي: سيدي الأخ النبيل أبا سعد إجلالاً وإحتراماًَ . وبعد فقد تكون ( عريضتي) هذه مباغتة بغيضة لا ترتكز على شيء من أسباب الذوق ، فاني بالنسبة إلى ( الماضي) ميت لا ترجى عودة الحياة إليه، ولكني بالنسبة إلى الواقع إنسان تدحرج في منحدر الجبل حتى إذا بلغ الوادي كان مهشم الأعضاء، وقد تمكنت الأوجاع من جسده ولكن الروح ما زالت لم تعرف القنوط. ان صلتي بسيدي الأخ بدأت ( بالإعجاب) وانتهى الإعجاب ( بالعبادة) وانتهت العبادة ( بالمحبة) والمحبة لابد منها في ( نظام الصوفية) وإليها أشار الشاعر بقوله: ان كان منزلتي في الحب عندكم ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي لا أنكر عليَّ شيء من الذكاء، ولكني في حاجة شديدة إلى ( الحظ) فليس الحظ شيئاً هيناً يمكن الحصول عليه في سهولة . لا أحاول تحاشي ما وقع، فالإنسان المحكوم عليه بالإعدام ينظر إلى كل شيء يقع عليه بصره وهو يمشي في طريقه إلى المشنقة. وأرجو أن تثق باني في الوقت الذي أسخر فيه من المشنقة أتهيب منك، وهذا التهيب إنما يقوم على ما لك في نفسي مما لا أريد الأفضاء به في هذه الظروف. ان رحيق النبيين إنما يتدفق في أقداح نقية، وقد تتصدع الأقداح ولكن شراب الرحمن لا يسكب هنا وهناك. أنني إنسان صبغته الأقدار بلون قاتم، فلم أتخرج من مدرسة ، سواء أكانت المدرسة واطية أم عالية، ولكني أتحدى اكثر الناس علماً في تفهم الحق والخير والجمال. ولست أنقم على نفسي هذا الفهم وان عرضني على الكوارث. لقد كُنتَ عوني في كثير من حاجات الحياة، وما زلت نعم العون ونعم النصير، ولكني في حاجة إلى الخلاص من هذا ( المصير) الجاهم، واليد الكريمة التي أخرجتني من النافذة قديرة على إخراجي من الباب. ان السياسة لا تستمد قوتها من القلب، وإنما من العقل وحده، ولكن الفطرة التي تستسيغ الأحلام تظل حلماً متواصلاً لا يتأثر بما اصطلح عليه غلاظ القلوب وقساة السياسة. لقد سافرت إلى ( قلعة صالح) تنفيذاًُ لرغبة صدرت عنك ، وقد تمت هذه الرغبة فجئت ( النفى) ولم أحرم من طبيب كانت أمراضي في حاجة إليه فقط، وإنما حرمت من الاستماع إلى حاجة أولادي أيضاً. ومهما قست الظروف ، فأنها لا تمحو ( الذكريات). إن إرادة الأقدار جعلت مني ( قائم مقام) ، أما الأرادة التي ألتمس فضلك فيها فهي النجاة مما غلطت فيه الأقدار والسكون إلى ما تطمئن إليه نفس قلقة كان التوظيف كارثتها الكبرى. وإذا كانت الوظيفة( خبزاً) تحتاج إليه أسباب الحياة فان الإنسان لا يعيش بالخبر فقط، وإنما هناك شيء أفضل من الخبز وأفضل من حياة تضطرب فيها( الآلام الخرساء). ان العاطفة التي غمرني بها الأخ إبراهيم كمال لها في نفسي أبلغ الأثر ، وقد اتخذت منه ( قساً) يصح الركون إليه في ( أسرار الاعتراف) وربما اعترفت له وربما كان واسطتي في هذا الرجاء. وأدعو الله بأن يحفظك، دعاء مخلص يتوجه إليك في محنته ويرى فيك مواسياً لا يتردد في قبول أصدق احترام المخلص. إبراهيم صالح شكر وكان إبراهيم صالح شكر قائمقاماً لقضاء قلعة صالح ( لثاني مرة ) في الفترة من 2/7/1941 إلى 16/11/1941 وأبا سعد هو جميل المدفعي الذي أصبح رئيساً للوزراء مباشرة بعد فشل ثورة أيار 1941، وكتب إبراهيم هذه الرسالة من قضاء قلعة صالح الذي نقل إليه من قضاء خانقين بعد فشل الثورة ، ويبدو انه أرسلها باليد مع إبراهيم كمال الذي أصبح وزيراً للمالية في وزارة جميل المدفعي التي شكلت في 2 حزيران 1941 ، وبقي محتفظاً بهذا المنصب في وزارة نوري السعيد التي أعقبتها في 9 تشرين الأول 1941 بالرغم من خصومته مع وزير الداخلية صالح جبر ، وتعرض كمال لمزاعم بأنه ساهم بتدبير قتل وزير المالية رستم حيدر الذي اغتيل في مكتبه في 18 كانون الثاني 1940، وتوفي بعد أربعة أيام ،ولم تثبت التهمة ضد كمال .

الاسم علي جارالله العتابي
التاريخ 21/02/2015 09:51:27 ص
التعليق الله يرحمه ويحفظ الأستاذ الدكتور الرائع عمر اليعقوبي

إضافة تعليق

الاسم  
التعليق